الدليل من الإجماع

غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان

الباب الرابع
الدليل على تنزيه الله عن المكان والجهة من الإجماع

اعلم أن المسلمين اتفقوا على أن الله تعالى لا يحلُّ في مكان ولا يحويه مكان ولا يسكن السماء ولا يسكن العرش، لأن الله تعالى موجود قبل العرش وقبل السماء وقبل المكان، ويستحيل على الله التغيّر من حال إلى حال ومن صفة إلى صفة أخرى، فهو تبارك وتعالى كان موجودًا في الأزل بلا مكان، وبعد أن خلق المكان لا يزال موجودًا بلا مكان. وما سنذكره في هذا الكتاب بمشيئة الله تعالى وعونه وتوفيقه من أقوالٍ في تنزيه الله عن المكان لأعلام ظهروا على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن منذ الصدر الأول أي منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا يُعْتَبَرُ من أقوى الأدلة على رسوخ هذه العقيدة وثبوتها في نفوس المسلمين سلفًا وخلفًا.
ليُعلم أن أهل الحديث والفقه والتفسير واللغة والنحو وعلماء الأصول، وعلماء المذاهب الأربعة من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة - إلا من لحق منهم بأهل التجسيم - والصوفية الصادقين كلهم على عقيدة تنزيه الله عن المكان، إلا أن المشبهة ومنهم نفاة التوسل شذّوا عن هذه العقيدة الحقة فقالوا إن الله يسكن فوق العرش بذاته والعياذ بالله تعالى.
1 - وممن نقل إجماع أهل الحق على تنزيه الله عن المكان الشيخ عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429هجري)، فقد قال ما نصه1: "وأجمعوا - أي أهل السنة والجماعة - على أنه - أي الله - لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان" انتهى.
2 - وقال الشيخ إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجُويني الشافعي (478هجري) ما نصه2: "ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصص بالجهات" انتهى.
3 - وقال المفسّر الشيخ فخرالدين الرازي (606هجري) ما نصه3: "إنعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيّز" انتهى.
4 - وقال الشيخ إسماعيل الشيباني الحنفي (629هجري) ما نصه4: "قال أهل الحق: إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهة خلافًا للكرّامية والمجسمة" انتهى.
5 - وقال سيف الدين الآمدي (631هجري) ما نصه5: "وما يُروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها والإيمان بتنزيلها وتلاوة كل ءاية على ما ذكرنا عنهم، وبيَّن السلف الاختلاف في الألفاظ التي يطلقون فيها، كل ذلك اختلاف منهم في العبارة، مع اتفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكن في مكان ولا متحيّز بجهة" انتهى.
وللشيخ ابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (733هجري) رسالة ألَّفَها في نفي الجهة ردَّ بها على المجسم الفيلسوف ابن تيمية الحرَّاني الذي سَفَّه عقيدة أهل السنة وطعن بأكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر وعلي رضي الله عنهما.
6 - قال ابن جَهْبَل ما نصه6: "وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة، فنقول: عقيدتنا أن الله قديم أزليٌّ، لا يُشبِهُ شيئًا ولا يشبهه شىء، ليس له جهة ولا مكان" انتهى.
7 - نقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري (771هجري) عن الشيخ فخر الدين بن عساكر أنه قال: " - إن الله تعالى موجود قبل الخلق ليس له قَبْلٌ ولا بَعْدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خَلْفٌ". ثم قال ابن السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه7: "هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سُنّي" انتهى.
8 - ووافقه على ذلك الحافظ المحدّث صلاح الدين العلائي (761هجري) أحَد أكابر علماء الحديث فقال ما نصه8: "وهذه "العقيدة المرشدة" جرى قائلها على المنهاج القويم، والعَقْد المستقيم، وأصاب فيما نزَّه به العليَّ العظيم" انتهى.
9 - قال الشيخ محمد مَيَّارة المالكي (1072هجري) ما نصه9: "أجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف" انتهى.
10 - وقال شيخ الجامع الأزهر سليم البِشْري (1335هجري) ما نصه: "مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السُّنّيون أن الله تعالى منزه عن مشابهة الحوادث مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنزهه عن الجهة والمكان" انتهى، ذكره القضاعي في "فرقان القرءان"10.
11 - وقال الشيخ يوسف الدجوي المصري (1365هجري) عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر ما نصه11: واعلم أن السلف قائلون باستحالة العلو المكاني عليه تعالى، خلافًا لبعض الجهلة الذين يخبطون خبط عشواء في هذا المقام، فإن السلف والخلف متفقان على التنزيه" انتهى.
12 - وقال أيضًا12: "هذا إجماع من السلف والخلف" انتهى.
13 - وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (1376هجري) ما نصه13: "أجمع أهل الحق من علماء السلف والخلف على تنزه الحق - سبحانه - عن الجهة وتقدسه عن المكان" انتهى.
14 - وقال المحدث الشيخ محمد عربي التبان المالكي المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي (1390هجري) ما نصه14: "اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته" انتهى.
15 - وممن نقل الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من مؤلفاته ودروسه المتكلم على لسان السلف الصالح العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحَبَشي وله عناية شديدة بتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة للناس فقال ما نصه15: "قال أهل الحق نصرهم الله: إن الله سبحانه وتعالى ليس في جهة" انتهى، فالحمد لله على ذلك. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء بقوله: "وإنه سيخرج من أمتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب16 بصاحبه، لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلا دخله" رواه أبو داود17. فالحمد لله الذي جعل لنا من يبيِّن عقيدة أهل السنة ويدافع عنها. وتمسك أخي المسلم بهذه العقيدة التي عليها مئات الملايين من المسلمين، والحمد لله على توفيقه.


---------------------
1- الفَرْق بين الفِرَق (ص/ 333).
2- الإرشاد (ص/ 58).
3- تفسير الرازي المسمى بالتفسير الكبير (29/ 216).
4- انظر شرحه على العقيدة الطحاوية المسمى "بيان اعتقاد أهل السنة" (ص/ 45).
5- غاية المرام في علم الكلام (ص/ 194).
6- طبقات الشافعية الكبرى: ترجمة أحمد بن يحيى بن اسماعيل (9/ 35).
7- طبقات الشافعية الكبرى: ترجمة أحمد بن يحيى بن اسماعيل (9/ 35).
8- المصدر السابق (8/ 185).
9- الدر الثمين (ص/ 30).
10- فرقان القرءان (مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي) (ص/ 74).
11- مجلة الأزهر: (مجلد9/ جزء1/ ص17 المحرم سنة 1357 هجري).
12- المصدر السابق (ص/ 17).
13- فرقان القرءان (مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي) (ص/ 93).
14- براءة الأشعريين (1/ 79).
15- إظهار العقيدة السنية ( ص/ 127).
16- قال ابن منطور في "لسان العرب" (11/ 723) : "الكَلَب: داء يعرض للإنسان من عضَّ الكَلْب الكَلِب فيصيبُه شِبْه الجنون، فلا يَعضُّ أحداَ إلا كَلِبَ".
17- سنن أبي داود: كتاب السنة: باب شرح السُّنة.